عرس الزين ... الطيب صالح1

يحتوي على كل أنواع القصص والأحداث الواقعية الشخصية .

المشرف: بانه

أضف رد جديد
صورة العضو الرمزية
حزن السنين
مشاركات: 4294
اشترك في: الأحد 2006.12.3 11:05 am
مكان: ~ معبد الاحزان ~
اتصال:

عرس الزين ... الطيب صالح1

مشاركة بواسطة حزن السنين »

لقد قمت بنقل هذه القصة الرائعة من احدي المنتديات السودانية و هي للروائئ السوداني / الطيب صالح و اكيد في كتير من الناس لم يقوموا بقرائتها و اهنا انقلها لكم و ما تحرومنا من ارائكم السرة .....


قالت حليمة بائعة اللبن لآمنة - وقد جاءت كعادتها قبل شروق الشمس - وهي تكيل لها لبنا بقرش :

"سمعت الخبر ؟ الزين مو داير يعرس " .

وكاد الوعاء يسقط من يدي آمنة . واستغلت حليمة انشغالها بالنبأ فغشتها اللبن .

كان فناء المدرسة " الوسطى " ساكنا خاويا وقت الضحى ، فقد أوى التلاميذ إلى فصولهم ، وبدأ من بعيد صبي يهرول لاهث النفس ، وقد وضع طرف ردائه تحت إبطه حتى وقف أمام باب " السنة الثانية " وكانت حصة الناظر .

" يا ولد يا حمار . إيه أخرك ؟ "

ولمع المكر في عيني الطريفي :

" يا فندي سمعت الخبر ؟ "

" خبر بتاع إيه يا ولد يا بهيم ؟ "

ولم يزعزع غضب الناظر من رباطة جأش الصبي ، فقال وهو يكتم ضحكته :

" الزين ماش يعقدو له بعد باكر "

وسقط حنك الناظر من الدهشة ونجا الطريفي .

وفي السوق أقبل عبد الصمد على دكان شيخ علي ، محتقن الوجه ، ليس ثمة أدنى شك في أنه غضبان . كان له على شيخ علي ، تاجر العماري ، دين ماطله عليه شهرا كاملا - وقد قرر أن يخلصه منه ذلك اليوم ، بالخير أو بالشر .

" علي . أنت يعني قايل أنا ما بخلص قروشي منك ، ولا فكرك شنو ؟ "

" حاج عبد الصمد . كدى قول بسم الله واقعد نجيب لك فنجان جبنة "

" يا زول جبنتك طايره عليك ، قوم افتح الخزنة دي ادني قروشي ، ولا كمان أن بقيت ما بي ضمه كمان فهمني "

وبصق شيخ علي على " السفة " من فمه

" كدى اقعد اتحدثك بالخبر دا "

" يا زول أنا مو فاضي لك ولا فاضي لي خبيراتك ، باقي أنا عارفك مستهبل داير تطرتش على قروشي " . " يمين قروشك حاضرات ، كدى اقعد انحكيلك حكاية عرس الزين"

" قلت عرس منو ؟ "

" عرس الزين "

وجلس عبد الصمد ووضع يديه على رأسه وظل صامتا برهة ، وشيخ علي ينظر إليه مغتبطا بالأثر الذي أحدثه . وأخيرا وجد عبد الصمد ما يقول :

" أي لا إله إلا الله محمداً رسول الله . عليك الرسول يا شيخ علي دار حديث شنودا ؟ "

ولم يخلص عبد الصمد دينه في ذلك اليوم

ولما انتصف النهار كان الخبر على فم كل أحد . وكان الزين على البئر في وسط البلد يملأ أوعية النساء بالماء ويضاحكهن كعادته فتجمهر حوله الأطفال . وأخذوا ينشدون " الزين عرس .. الزين عرس " فكان يرميهم بالحجارة ، ويجر ثوب فتاة مرة ومرة يهمز امرأة في وسطها ، ومرة يقرس أخرى في فخذها والأطفال يضحكون ، والنساء يتصارخون ويضحكن وتعلو فوق ضحكهم جميعا الضحكة التي أصبحت جزءا من البلد منذ أن ولد الزين .

يولد الأطفال فيستقبلون الحياة بالصريخ ، هذا هو المعروف ولكن يروى أن الزين ، والعهدة على أمه والنساء اللائي حضرون ولادتها ، أول ما مس الأرض انفجر ضاحكا وظل هكذا طول حياته . كبر وليس في فمه غير سنّين . واحدة في فكه الأعلى والأخرى في فكه الأسفل . وأمه تقول أن فمه كان مليئا بأسنان بيضاء كاللؤلؤ . ولما كان في السادسة ذهبت به يوما لزيارة قريبات لها ، فمرا عند مغيب الشمس على خرابة يشاع أنها مسكونة ، وفجأة تسمر الزين مكانه وأخذ يرتجف كمن به حمى ، ثم صرخ . وبعدها لزم الفراش أياما ، ولما قام من مرضه كانت أسنانه جميعا قد سقطت ، واحدة في فكه الأعلى ، وأخرى في فكه الأسفل .

كان وجه الزين مستطيلا ناتئ عظام الوجنتين والفكين وتحت العينين ، جبهته بارزة مستديرة ، عيناه صغيرتان محمرتان دائما ، محجراهما غائران مثل كهفين في وجهه ، ولم يكن على وجهه شعر إطلاقا . لم تكن له حواجب ولا أجفان ، وقد بلغ مبلغ الرجال وليست له لحية أو شارب .

تحت هذا الوجه رقبة طويلة ، ( من بين الألقاب التي أطلقها الصبيان على الزين " الزرافة " ) والرقبة تقف على كتفين قويتين تنهدلان على بقية الجسم في شكل مثلث . الذراعان طويلتان كذراعي القرد . اليدان يظتان عليهما أصابع مسحوبة تنتهي بأظافر مستطيلة حادة ( فالزين لا يقلم أظافره أبدا ) .

الصدر مجوف ، والظهر محدودب قليلا ، والساقان رقيقتان طويلتان كساقي الكركي ، أما القدمان فقد كانتا مفرطحتين عليهما آثار ندوب قديمة ( فالزين لا يحب لبس الأحذية ) وهو يذكر قصة كل جرح من هذه الجروح . مثلا هذا الشلخ الطويل على القدم اليمنى : الممتد من الرسغ على ظاهر القدم إلى الفرجة بين الأصبع الأولى والثانية . يحكي الزين قصته فيقول : " الجرح دا يا جماعة ليه حكاية " ويستفزه محجوب قائلا : " حكاية شنو يا عوير ؟ يا مشيت تسرق ضربوك بي غصن شوك " . ويقع هذا موقعا حسنا في نفس الزين . فيستلقي على قفاه ضاحكا . ثم يضرب الأرض بيديه ويرفع رجليه في الهواء ويظل يضحك بطريقته الفذة . ذلك الضحك الغريب الذي يشبه نهيق الحمار . وكان ضحكه قد أعدى الحاضرين جميعا ، فتحول المجلس إلى قهقهة مدوية . ويتمالك الزين نفسه . ويمسح بكم ثوبه الدمع الذي سال على وجهه من الضحك ، ويقول : أي .. أي .. مشيت أسرق " . ويستفزه محجوب من جديد : " شن مشيت تسرق آمر مد ؟ يمكن قت داير لك شيتن تاكله " . ويمسح الزين وجهه بيديه ويعود للضحك من جديد . ويرجح الحاضرون أن الزين دخل بيتا ليسرق طعاما . إذ أنه كان معروفا بالنهم ، إذا أكل لا يشبع . وفي الأعراس حين تأتي " سُفر " الطعام ويتحلق الناس حلقات يأكلون ، يتحاشى كل فريق أن يجلس الزين معهم ، إذ أنه حينئذ يأتي في لمح البصر على كل ما في الآنية ، ولا يترك أكلا لآكل . وقال له عبد الحفيظ : " مالك طاري العملة العملتها وقت عرس سعيد ؟ " وأجاب الزين وهو يقهقه : " أي طاري .. عليك أمان الله الأكل وكت أكلته عدمته الحبة إن كان موجني إسماعيل مقطوع الطاري لحقني " . كان الزين قد أوكل بنقل الطعام في عرس سعيد فكان يمشي جيئة وذهابا بين " الديوان " حيث اجتمع الرجال و" التٌكل " في داخل اليت حيث تقوم النسوة بالطهي . وفي الطريق من التٌكل إلى الديوان كان الزين يتمهل قليلا ويأكل ما طاب له الأكل من الوعاء الذي يحمله . وحين يصل به إلى الناس يكاد يكون خاليا وفعل ذلك ثلاث مرات حتى لفت انتباه أحمد إسماعيل ، فتابعه حتى وقف في نصف الطريق ، ورفع الغطاء عن صينية مملوءة بالدجاج المحمر . وما أن أمسك الزين بدجاجة منها وقربها إلى فمه ، حتى هجم عليه أحمد إسماعيل وأشبعه ضربا . وسأله محجوب مرة أخرى " ما تقول لنا يا فقر مشيت تسرق شنو ؟ " ولما لاحظ الزين أن الناس حوله قد أرهفوا آذانهم ، اعتدل في قعدته ووضع ذراعية بين ركبتيه وقال " الصيف الفات وقت حس المريق ... كنت متأخر في الساقية ، الدنيا يا زول كان القمر يلجلج ، رميت توبي فوق كتفي وجيت سادر للبيوت ، أقول لك وكت وصلت الرملة العند طرف الحلة ، اسمع لك حس زغاريت ... " وقاطعه محجوب : " أي صدق : دا كان عرس بكري " . واستمر الزين : " أقول لك يا زول قت أمشي أشوف الحكاية شنو . أتاري ناس فريق الطلحة سارّين العرس . مشيت لقيت القيامة قايمة . الزيطة والزمبليطة والدلاليك والزغاريت أول شي مشيت أهبش إن كان ألقى لي شيتن آكله .. ".


وانفجر المجلس بالضحك . فقد كان ما قدروا .. " الحريم في التكل أدّني لحيمات أكلتها . وأدّني شيتن مر شربته ".

وقال محجوب : " يبقي دا عرقي آ مسجم " .

وقال الزين : " لا مو عرقي قال لك أنا العرقي ما بعرفوا .. أقول لك آزول الشي الشربته دا طار لي في راسي . يعدين مرتحت من التكل . دخلت بيت القالك كمشة حريم والأرباح والدلكة والمحلب ما يدّيك الدرب ... عليّ بالطلاق آزول الريحة سكرتني " .

وضحك عبد الحفيظ : " وين المره البطلقها مع الرجال ؟ " لم يعبأ الزين بهذا . ولكنه استمر يحكي في القصة وقد أخذته النشوة " وفي الوسط القالك العروس . بنيتن سميحة مكبرته ومدخنة وملبسنها فركة ترمصيص ". وهنا صمت الزين وأدار عينيه الصغرتين في وجوه الحاضرين . وفمه مفتوح وقد برز سناه . ولم يقو محجوب على الصبر ، فأخذ يستحثه أن يكمل القصة : " بعدين شن سويت ؟

" بعدين نطيب على العروس ".

وحين قال هذا قفز من مكانه كالضفدعة . وضج الحاضرون وانفجر الزين في الضحك واستلقى على بطنه وراح يضرب برجليه في الهواء . ثم انقلب على ظهره وقال وهو ما يزال يشهق بالضحك : " مسكت الشافعة عضيتها في خشمها ". وتشهد محجوب واستغفر . " أقول لك يا زول الحريم طقن الكواريك والبيت فار والشافعة العروس بقت تصرخ . وما القا لك إلا زول ضرب كراعي بي سكين . أقول لك قت يا مين مسكنها فرد جريه لا من وصلت أهلي ". وفجأة استوى الزين جالسا وظهر على وجهه بالغ . وقال يوجه حديثه لمحجوب : " اسمع يا زول . أنت داير تعرس لي بتك علوية ولا عندك كلام ؟ " فأجابه محجوب بجد وحزم كأنه يعني ما يقول : " البت أنا مضيتها ليك . دحين قدام الناس الحاضرين ديل بعد تحش قمحك وتلم تمرك وتبيعه وتحضر القروش نجي نعقد لك " . هذا الوعد أرضى الزين . وصمت برهة وقد قطب حاجبيه وزم شفتيه وكأنه قد أخذ يفكر في مستقبل حياته مع علوية ومسؤولية القيام بأعباء زوجة وأطفال . وقال : " خلاص . اشهدوا يا خوانا . الرجل دا مرقت منه كلمة . باكر بعد باكر ما يجي يفكر " وقال الحاضرون جميعا . أحمد إسماعيل ، والطاهر الرواسي ، وعبد الحفيظ . وحمد ود الريس . وسعيد صاحب الدكان ،قالوا إنهم شهود على الوعد الذي قطعه محجوب وإن الزواج سيتم بإذن الله
صورة العضو الرمزية
حزن السنين
مشاركات: 4294
اشترك في: الأحد 2006.12.3 11:05 am
مكان: ~ معبد الاحزان ~
اتصال:

رد: عرس الزين ... الطيب صالح1

مشاركة بواسطة حزن السنين »

قصة حب الزين لعلوية ابنة محجوب كانت آخر قصة حب له . بعد شهر أو شهرين سيسأمها ويبدأ قصة جديدة ، لكنه في الوقت الحاضر مشغول بها ، يصحو وينام على ذكرها تجده في الحقل في منتصف النهار محنيا على " طوريته " والعرق يتصبب من وجهه وفجأة يكف عن الحفر ،،وينادي بأعلى صوته : " أنا مكتول في حوش محجوب ". وفي الحقول المجاورة يكف عشرات الناس . عن حفر الأرض برهة حين يسمعون نداء الزين . الشبان يضحكون ، وبعض الشيوخ الذين يضيقون أحيانا بعبث الزين يهمهمون بتبرم : " الولد المطرطش دا يرغي يقول شنو ؟ " وحين ينتهي العمل في الحقل إلى البيت وسط زفة كبيرة من الشبان والصبيان والفتيات الصغار ، يتضاحكون من حوله ، وهو يختال مزهوا بينهم . يضرب هذا على كتفه ، ويقرص هذه في خدها ويقفز في الهواء قفزات ، وكلما رأى شجيرة طلع على قارعة الطريق نط فوقها ، وبين الحين والحين يصيح بأعلى صوته ، صياحا يتردد في أرجاء القرية التي غربت عليها الشمس : "اروك .. يا ناس الغريق .. يا أهل الحلة ... أنا مكتول في حوش محجوب ... ". ..قتل الحب الزين أول مرة وهو حدث لم يبلغ مبلغ الرجال كان في الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة ، نحيلا هزيلا كأنه عود يابس . ومهما قال الناس عن الزين ، فإنهم يعترفون بسلامة ذوقة ، فهو لا يحب إلا أروع فتيات البلد جمالا وأحسنهن أدبا وأحلاهن كلاما . كانت عزة ابنة العمدة في الخامسة عشرة من عمرها وقد تفتح جمالها فجأة كما تنتعش النخلة الصبية حين يأتيها الماء بعد الظمأ . كانت ذهبية اللون مثل حقل الحنطة قبيل الحصاد ، وكانت عيناها واسعتين سوداوين في وجه صافي الحسن ، دقيق الملامح ، ورموش عينيها طويلة سوداء ، ترفعهما ببطء فيحس الناظر إليها بوخز في قلبه ، وكان الزين أول من نبه شبان البلد إلى جمال عزة ، ارتفع صوته فجأة ذات يوم في جمع عظيم من الرجال نفرهم العمدة لإصلاح حقله . ارتفع صوته المبحوح الحاد . كما يرتفع صوت الديك عند طلوع الفجر : " عوك يا أهل الحلة . يا ناس البلد . عزه بنت العمدة كاتلالها كتيل ، الزين مكتول في حوش العمدة " . وفوجئ الناس بتلك الجرأة . والتفت العمدة بعنف ناحية الزين وقد تحرك غضب غريزي في صدره . وفجأة كأنما الناس كلهم ، في آن واحد ، أدركوا التباين المضحك بين هيئة الزين ، وهو واقف هنالك كأنه جلد معزة جاف ، وبين عزة بنت العمدة ، فأنفجروا ضاحكين كلهم في آن واحد . ومات الغضب في صدر العمدة . كان جالسا على مقعد تحت ظل نخلة ، محمر العينين ، منتفض الشاربين ، يحث القوم على العمل ، كان رجلا مهيبا جادا قل أن يضحك ، بيد أنه هذه المرة قد ضحك من قول الزين ، ضحكته الخشنة المفرقعة ، نعرس لك عزة " . وضحك القوم مرة أخرى مجاراة للعمدة ، ولكن الزين ظل صامتا . وعلى وجهه جد واهتمام ، ودون أن يشعر وجد ضربات معولة في الأرض تزداد قوة وتتابعاً. .ومضى شهر بعد ذلك والزين لا حديث له إلا حبه لعزة وإن إباها وعده بزواجها . وقد عرف العمدة كيف يستغل هذه العاطفة ، فسخر الزين في أعمال كثيرة شاقة يعجز عنها الجن . كنت ترى الزين العاشق يحمل جوز الماء على ظهره في عز الظهر ، في حر تئن منه الحجارة مهرولاً هنا وهناك . يسقي جنينة العمدة . وتراه ماسكا بفأس أضخم منه يقطع شجرة أو يكسر حطبا . وتراه منهمكا يجمع العلف لحمير العمدة وخيله وعجوله . وحين تضحك له عزة مرة في الأسبوع ، لا تكاد الدنيا تسعه من الفرح ، وما إن مضى شهر ، حتى شاع في البلد أن عزه خطبت لابن خالها الذي يعمل مساعدا طبيبا في أبو عشر ولم يثر الزين ولم يقل شيئا ولكنه بدأ قصة جديدة ، استيقظت البلد يوما على صياح الزين : أنا مكتول في فريق القوز " : وكانت ليلاه هذه المرة فتاة من البدو الذين يقيمون على أطراف النيل في شمال السودان . يفدون من أرض الكبابيش ودار حمر ومضاب الهواوير والمريضاب في كردفان يشح الماء في أراضيهم في بعض المواسم ، فيفدون على النيل بإبلهم وأغنامهم طلبا للري ، وأحيانا تلم بهم سنوات قحط حين تضن السماء بالمطر فيتساقطون على المناهل في ديار الشايقية والبديرية المقيمين على النيل . أغلبهم لا يلبثون حتى تنكشف الغمة ثم يعودون من حيث أتوا ، ولكن بعضا منهم كانت تستهويهم حياة الاستقرار على وادي النيل فيبقون ، ومن هؤلاء عرب القوز . ظل هؤلاء البدو سنوات طويلة يرابطون على طرف الأرض المزروعة يبيعون اللبن ، يرعون الغنم ، ويجلبون حطب الوقود ، وفي موسم حصاد التمر يجمعونه لأصحابه مقابل أجر قليل . لا يتزاوجون مع السكان الأصليين ، فهم يعتبرون أنفسهم عربا خلصا ، وأهل البلد يعتبرونهم بدوا أجلافا . ولكن الزين كسر هذا الحاجز كان لا يستقر في مكان ما يزال سحابة نهاره سائحا في البلد من أقصاها إلى أقصاها . وحملته قدماه يوما إلى فريق القوز لغير سبب فحام حول البيوت كأنه يبحث عن شيء ضاع منه . وخرجت فتاة راع الزين جمالها فتسمر في مكانه . وكانت الفتاة قد سمعت به ، فإن شهرته وصلت حتى عرب القوز ، فضحكت له وقالت تعبث به : " الزين ، بتعرسني ؟ " وتبكم برهة ، فقد فتنه جمال الفتاة وأخذته حلاوة حديثها , لكنه ما لبث أن صاح بأعلى صوته : " واكتلتي يا ناس ". وامتدت رؤوس كثيرة من أبواب البيوت وبين فرجات الخيام ، وصاحت أم الفتاة : " حليمه الموقفك شنو مع الدرويش دا ؟" وهب إخوان الفتاة على الزين ، ففر منهم ، ولكن حليمة ، حسناء القوز ، أصبحت فيما بعد هوسا عنده ، لم يفارقه إلى أن تزوجت الفتاة ، فقد تسامع الناس بها وجاء كثيرون من أثرياء البلد وشبانه المرموقين ووجهائها يخطبونها من أبيها ، وتزوجها آخر الأمر ابن القاضي . ...كان زواج بنت العمدة وزواج حليمة نقطة تحول في حياة الزين . فقد فطنت أمهات البنات إلى خطورته ، كبوق يدعين به لبناتهن في مجتمع محافظ ، تحجب فيه البنات عن الفتيان ، أصبح الزين رسولا للحب ، ينقل عطره من مكان إلى مكان ، كان الحب يصيب قلبه أول ما يصيب ثم ما يلبث أن ينتقل منه إلى قلبه غيره ، فكأنه سمسارا أو دلال أو ساعي بريد ينظر الزين بعينيه الصغيرتين كعيني الفأر ، القابعتين في محجرين غائرين ، إلى الفتاة الجميلة ، فيصيبه منها شيء - لعله حب ؟ وينوء قلبه الأبكم بهذا الحب ، فتحمله قدماه النحيلتان إلى أركان البلد ، يجري ها هنا وها هنا كأنه كلبة فقدت جراءها ، ويلهج لسانه بذكر الفتاة ويصيح باسمها حيثما كان ، فلا تلبث الآذان أن ترهف ، وما تلبث العيون أن تنبه ، وما تلبث يد فارس من بينهم أن تمتد فتأخذ يد الفتاة . وحين يقام العرس ، تفتش عن الزين ، فتجده أما مسخرا يا القلل والأزيار بالماء أو واقفا في منتصف الساحة عاري الصدر . في يده فأس يكسر به الحطب أو بين النساء في المطبخ يعابثهن ، ويعطينه من آن لآخر قطعا من الطعام يملأ بها فمه ، وما يفتأ يضحك ضحكته التي شبه نهيق الحمار ، وتبدأ قصة حب أخرى .. وكان الزين يخرج من كل قصة حب كما دخل ، لا يبدو عليه تغيير ما. ضحكته هي هي لا تتغير وعبثه لا يقل بحال . وساقاه لا تكلان عن حمل جسمه إلى أطراف البلد .
صورة العضو الرمزية
حزن السنين
مشاركات: 4294
اشترك في: الأحد 2006.12.3 11:05 am
مكان: ~ معبد الاحزان ~
اتصال:

رد: عرس الزين ... الطيب صالح1

مشاركة بواسطة حزن السنين »

ووفدت على الزين سنوات خصب مفعمة بالحب . فقد أصبحت أمهات البنات يخطبن وده ويستدرجنه إلى البيوت فيقدمن له الطعام ، ويسقينه الشاي والقهوة ، يدخل الزبن الدار من تلك الدور . فيفرش له السرير ، ويقدم له الفطور أو الغداء في صينية وأوان ، ويؤتى بعد ذلك بالشاي السادة بالنعناع إذا كان الوقت ضحى ، والشاي الثقيل باللبن إذا كان الوقت عصرا . وبعد الشاي يؤتى بالقهوة بالقرفة والحبهان والجنزبيل ، سواء كان الوقت ضحى أو عصرا وما يسمع النساء أن الزين في دار قريبة حتى يتقاطرن عليه ، والسعيدة منهن من تقع في قلبه موقعا ، والتي يخرج واسمها على فمه ، تلك الفتاة تضمن زوجا في خلال شهر أو شهرين . ولعل الزين ، بفطرة فيه ، أدرك خطورة مركزه الجديد ، فأصبح يتدلل على أمهات البنات ويتردد قبل أن يجيب دعوة إحداهن للإفطار أو للغداء . ، كل هذا وفي الحي فتاة واحدة لا يتحدث الزين عنها ، ولا يعبث معها ، فتاة تراقب من بعد بعيون حلوة غاضبة ، كلما رآها مقبلة يصمت ويترك عبثه ومزاحه ، وإذا رآها من بعد فر من بين يديها وترك لها الطريق . ..وروجت أم الزين أن ابنها ولي من أولياء الله . وقوي هذا الاعتقاد صداقة الزين مع الحنين . كان رجلا صالحا منقطعا للعبادة ، يقيم في البلد ستة أشهر في صلاة وصوم ، ثم يحمل إبريقه ومصلاته ويضرب مصعدا في الصحراء ، ويغيب ستة أشهر ، ثم يعود ولا يدري أحد أين ذهب . ولكن الناس يتناقلون قصصا غريبة عنه ، يحلف أحدهم أنه رآه في مروى في وقت معين . بينما يقسم آخر أنه شاهده في كرمه في ذلك الوقت نفسه - وبين البلدين مسيرة ستة أيام . ويزعم أناس أن الحنين برفقة من الأولياء السائحين الذين يضربون في الأرض يتعبدون والحنين قلما يتحدث مع أحد من أهل البلد ، وإن سئل أين يذهب ستة أشهر كل عام . لا يجيب . ولا أحد يدري ماذا يأكل وماذا يشرب ، فهو لا يحمل زادا في أسفاره الطويلة . ،ولكن في البلد إنسانا واحد يأنس إليه الحنين ويهش له ويتحدث معه - ذلك هو الزين ، كان إذا قابله في الطريق عانقه وقبله على رأسه ، وكان يناديه " المبروك " . وكان الزين أيضا إذا رأى الحنين مقبلا ، ترك عبثه وهذره وأسرع إليه وعانقه . ولم يكن الحنين يأكل طعاما في بيت أحد ، إلا دار أهل الزين يسوقه الزين معه إلى أمه ويأمرها بصنع الغداء أو الشاي أو القهوة . ويظل الزين والحنين ساعات في ضحك وكلام ، ويحاول أهل البلد أن يعرفوا من الزين سر الصداقة التي بينه وبين الحنين فلا يزيد على قوله : " الحنين راجل مبروك " . كانت للزين صداقات عديدة من هذا النوع ، مع أشخاص يعتبرهم أهل البلد من الشواذ ، مثل عشمانة الطرشاء ، وموسى الأعرج ، وبخيت الذي ولد مشوها ، ليست له شفة عليا ، جنبه الأيسر مشلول ، كان الزين يحنو على هؤلاء القوم ، إذا رأى عشمانة قادمة من الحقل وعلى رأسها حمل ثقيل من الحطب حمله عنها وهش لها وداعبها ، كانت فتاة تخاف من كل أحد ، إذا صادفت امرأة أو رجلا في طريقها ارتعبت وفزعت ، كأنهم وحوش مفترسة ، ولكنها كانت تأنس للزين وتضحك له ضحكتها البكماء المحزنة التي تشبه صياح الدجاج ، وموسى الذي لا يذكر الناس اسمه ولكنهم يسمونه الأعرج ، رجل طاعن في السن ، حين تراه مقبلا ينفطر قلبك من كثرة ما يعاني في مشيه ، الحياة بالنسبة له طريق متعب شاق ، كان عبدا رقيقا لرجل موسر في البلد ، ولما منحت الحكومة الرقيق حريتهم ، آثر موسى أن يبقى مع مولاه ، كان مولاه شغوفا به يحبه ويبره ويعامله معاملة الابن ، ولما توفي آلت الثروة إلى ابن سفيه ، فبددها وطرد موسى . وأدركته الشيخوخة وهو معدم لا أهل له ، ولا أحد يعنيه أمره . فعاش على حافة الحياة في البلد ، كما تعيش بعض الكلاب العجوزة الضالة ، التي تأوي إلى الخرابات في الليل ، وتبحث عن القوت نهاراً في فجوات الحي ، يتحرش بها الصبيان ، عطف الزين على هذا الرجل ، وبنى له بيتا من جريد النخل وأعطاه معزة ملبنة كان يأتيه في الصباح فيسأله كيف بات ليله ، ويأتيه بعد غروب الشمس ، مالئا جيوبه بالتمر وثوبه منتفخ بالطعام ، فيلقيه بين يديه ، وأحيانا يجيء ومعه وقية شاي أو رطل سكر أو شيء من البن ، وتسأل موسى الأعرج عن الصداقة التي بينه وبين الزين فيقول لك وفي عينيه غشاوة من الدمع: " الزين حبابه عشرة الزين ود حلال " . ويرى أهل البلد هذه الأعمال من الزين فيزداد عجبهم . لعله نبي الله الخضر لعله ملاك أنزله الله في هيكل آدمي زري ليذكر عباده أن القلب الكبير قد يخفق حتى في الصدر المجوف والسمت المضحك كصدر الزين وسمته ،،

وبعضهم يقول : " يضع سره في أضعف خلقه " . ولكن صوت الزين لا يلبث أن يرتفع مناديا : " يا أهل الغريق .. يا ناس الحلة . أنا مكتول ". فتتحطم هذه الصورة ، وتعود صورة الزين التي يألفها الناس ويؤثرونها .

كل هذا وفي الحي صبية حلوة ، وقورة المحيا ، غاضبة العينين ، تراقب الزين في عبثه ومزاحه وهزاره ، وجدته يوما في مجموعة من النساء يضاحكهن كعادته ، فانتهرته قائلة : " ما تخلي الطرطشة والكلام الفارغ تمشي تشوف أشغالك ؟ " وحدجت النساء بعينيها الجميلتين . سكت الزين عن الضحك وطأطأ رأسه حياء ثم أنسل بين النساء ومضى في سبيله . ،لم تصدق آمنة أذنيها . وسألت حليمة بائعة اللبن ، للمرة العاشرة " فتي داير يعرس منو ؟ " وللمرة العاشرة قالت حليمة :" نعمة " مستحيل . لا بد أن الفتاة فقدت عقلها نعمة تتزوج الزين ؟ واختلطت الدهشة في صدر آمنة بالغضب وتذكرت بوضوح ذلك اليوم قبل شهرين حين بلغت كرامتها وتحاملت على نفسها وذهبت إلى أم نعمة ، كانت قد حلفت ألا تكلم سعدية بعد ذلك في حياتها ، فقد توفيت أم آمنة وجاء نساء البلد جميعا يعزينها إلا سعدية ، ولم تهتم آمنة أن سعدية كانت غائبة عن البلد في الوقت الذي توفيت فيه أمها . كانت مريضة في المستشفى في مروى حيث ظلت طريحة الفراش شهرا كاملا وحين عادت من مروى جاءت النساء جميعا يستفسرن عن صحتها إلا آمنة . وانقسم النساء فريقين ، فريق يخطئ سعدية ويقلن أن الواجب كان يحتم عليها أن تبدأ آمنة بالزيارة ، فالموت أكبر من المرض وفريق من النساء يتحزب لسعدية ، ويقلن أن أم آمنة بلغت أرذل العمر على أي حال ، والحي خير من الميت وزاد اللغط وتعقدت المشكلة ، وأصرت كل من المرأتين على رأيها ، وأصبحت آمنة لا تكلم سعدية وسعدية لا تكلم آمنة . حتى قبل شهرين حين أصر ابن آمنة عليها أن تذهب وتخطب نعمة . وبلعت المرأة كرامتها وتحاملت على نفسها ودخلت على سعدية في دراها . وقت الضحى وعلى النار قهوة تغلي ، وعلى المائدة فناجين وسكر وأشياء استقبلتها سعدية استقبالا فاترا ، وعرضت عليها القهوة بصوت بارد ، فرفضت آمنة ، ولم تزد سعدية ، لم تحلفها ولم تخصصها . لم تقل لها : " الرسول يتعرض لك النبي عليك ، الله يهديك تشربي القهوة " . لم تزد على جملة واحدة ، وتطلبت آمنة شجاعة كبيرة ، لكي تحدث سعدية في موضوع ابنها أحمد ، ونعمة ابنة سعدية ، عرقت وجفت وبلعت ريقها . , أخيرا قالت في صوت مرتعش وفي داخلها تلعن ابنها الذي عرضها لكل هذا الاحتقار : " سعدية أختي . أنا كت حالفه تاني الحاية ولا الممات ما يجيبني ليكي ، بحال أنت من دون الناس كلهم ابيتي تجي تعزيني في أمي . لكين برضه المؤمن مسامح .. دحيني يا ختي أنا عافالك . الغرض الجابني ليكي حسع ، الشيء الجيتك من شأنه ، أحمد ولدي أبو أحمد وأنا عندنا رغبة في نعمة لي أحمد " . ولما فرغت من حديثها ، شعرت بلسانها كقطعة من الخشب في فمها وأحست بحلقها قد تقلص فتنحنحت مرتين وارتعشت يداها . ولم تقل سعدية شيئا . لو أنها فاهت بكلمة واحدة لهدأ روع آمنة قليلا . سعدية دائما تشعرها بأنها أقل منها شأنا . أنها امرأة جميلة نبيلة الملامح والسلوك ، تحس وأنت تنظر إلى وجهها الوقور السمح بثروة أخوانها السبعة ، وأملاك أبيها الواسعة ونخل زوجها وشجره وبقره ومواشيه التي لا يحصيها العد . هذه المرأة لها أولاد ثلاثة تعلموا في المدارس واشتغلوا في الحكومة ولها بنت جميلة يتطلع إليها الفتيان ، والناس يذكرونها بالخير ، هذه المرأة القليلة الكلام ، لماذا لا تقول شيئا ؟ وأخيرا رفعت سعدية أهداب عينيها الطويلة ، ونظرت إلى آمنة نظرة لم تفهمها . لم يكن فيها غضب أو حقد أو عتاب أو ود . وقالت بصوتها الهادئ الذي لا يهتز ولا يثور : " إن شاء الله خير . طبعا الشورى عند أبو البت ، وقت يجي نكلمه " تذكرت آمنة كل هذا ، وتذكرت كيف أنهم رفضوا بعد ذلك ، والآن يزوجونها للزين - هذا الرجل الهبيل الغشيم ! يزوجونها للزين دون سائر الناس ، وشعرت آمنة كأن في الأمر إساءة موجهة يها شخصيا ، عن عمد ، وارتاعت حليمة بائعة اللبن حين لاحظت عيني آمنة تتسعان بالغضب ، وحسبت أن آمنة أدركت أنها غشتها اللبن ، فزادته وقالت لآمنة : " كمان ها كي دا زيادة عشان ما تزعلي
صورة العضو الرمزية
حزن السنين
مشاركات: 4294
اشترك في: الأحد 2006.12.3 11:05 am
مكان: ~ معبد الاحزان ~
اتصال:

رد: عرس الزين ... الطيب صالح1

مشاركة بواسطة حزن السنين »

تتابعت الأعوام ، عام يتلو عاما ، ينتفخ صدر النيل ، كما يمتلئ صدر الرجل بالغيظ ويسيل الماء على الضفتين ، فيغطي الأرض المزروعة حتى يصل إلى حافة الصحراء عند أسفل البيوت ، تنق الضفادع بالليل ، وتهب من الشمال ريح رطبة مفعمة بالندى تحمل رائحة هي مزيج من أريج زهر الطلح ورائحة الحطب المبتل ورائحة الأرض الخصبة الظمأى حين ترتوي بالماء ورائحة الأسماك الميتة التي يلقيها الموج على الرمل ، وفي الليالي المقمرة حين يستدير وجه القمر يتحول الماء إلى مرآة ضخمة مضيئة تتحرك فوق صفحتها ظلال النخل وأغصان الشجر والماء يحمل الأصوات إلى أبعاد كبيرة ، فإذا أقيم حفل عرس على بعد ميلين تسمع زغاريده ودق طبوله وعزف طنابيره ومزاميره كأنه إلى يمين دارك . ويتنفس النيل الصعداء ، وتستيقظ ذات يوم فإذا صدر النيل قد هبط وإذا الماء قد انحسر عن الجانبين ، يستقر في مجرى واحد كبير يمتد شرقا وغربا ، تطلع منه الشمس في الصباح وتغطس فيه عند المغيب . وتنظر فإذا أرض ممتده ريانة ملساء ترك عليها الماء دروبا رشيقة مصقولة في هروبه إلى مجراه الطبيعي . رائحة الأرض الآن تملأ أنفك فتذكرك برائحة النخل حين يتهيأ اللقاح . الأرض ساكنة مبتلة ، ولكنك تحس أن بطنها ينطوي على سر عظيم ، كأنها امرأة عارمة الشهوة تستعد لملاقاة بعلها . الأرض ساكنة ولكن أحشاءها تضج بماء دافق هو ماء الحياة والخصب . الأرض مبتلة متوثبة ، تتهيأ للعطاء ، ويطعن شيء حادا أحشاء الأرض . لحظة نشوة وألم وعطاء . وفي المكان الذي طعن في أحشاء الأرض ، تتدفق البذور ، وكما يضم رحم الأنثى الجنين في حنان ودفء حب . كذلك ينطوي باطن الأرض على حب القمح والذرة واللوبيا ، وتتشقق الأرض عن نبات وثمر . تذكر نعمة وهي طفلة أن النساء كن إذا جئن لزيارة أمها كن يجلسنها على حجورهن ، ويمسحن بأيديهن على شعرها الغزير المتهدل على كتفيها ، ويقبلنها على خدها وشفتها ويدغدغنها ، ويضممنها إلى صدورهن . وكانت تمقت ذلك ، وتتلوى في أذرعهن ، ومرة ضجرت عبث امرأة بدينة بها ، وشعرت بذراعي المرأة الغليظتين تنطبقان عليها ، كأنهما فكا حيوان مفترس ، وبردفي المرأة المثقلة وعطرها القوي ، كأنها تخنقها ، وتململت نعمة وحاولت أن تتخلص من قبضة المرأة . ولكن المرأة ضمتها إلى صدرها بقوة وانقضت على وجهها بشفتيها المكتنزتين تقبلها على رقبتها وعلى خدها ، وتشمها ، صفعتها نعمة على وجهها صفعة قاسية ، وذعرت المرأة وانفك ذراعاها وانفلتت نعمة وتركت الغرفة . ولما كبرت ولم تعد طفلة ، أصبحت رؤوس النساء والرجال على السواء تلتفت إليها ، حين تمر بهم في الطريق . لكنها لم تكن تأبه لجمالها ، وتذكر أيضا كيف أرغمت أباها أن يدخلها في الكُتَّاب لتتعلم القرآن . كانت الطفلة الوحيدة بين الصبيان . وبعد شهر واحد تعلمت الكتابة ، وكانت تستمع إلى صبيان يكبرونها يقرأون سورا من القرآن ، فتستفر في ذهنها ، وأقبلت على القرآن ، تحفظه بنهم ، وتستلذ بتلاوته وكانت تعجبها آيات معينة منه ، تنزل على قلبها كالخبر السار ، كانت تؤثر مما حفظته سورة الرحمن وسورة مريم وسورة القصص ، وتشعر بقلبها يعتصره الحزن وهي تقرأ عن أيوب وتشعر بنشوة عظيمة حين تصل إلى الآية وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا . وتتخيل رحمة امرأة رائعة الحسن متفانية في خدمة زوجها ، وتتمنى لو أن أهلها اسموها رحمة . كانت تحلم بتضحية عظيمة لا تدري نوعها ، تضحية ضخمة تؤديها في يوم من الأيام ، فيها ذلك الإحساس الغريب الذي تحسه حين تقرأ سورة مريم ونشأت نعمة طفلة وقورة ، محور شخصيتها الشعور بالمسؤولية ، تشارك أمها في أعباء البيت ، وتناقشها في كل شيء ، وتتحدث إلى أبيها حديثا ناضجا جريئا يذهله في بعض الأحيان ، كان أخوها الذي يكبرها بعامين يحثها على مواصلة التعليم في المدارس ويقول لها : " يمكن تبقي دكتورة ولا محامية " . ولكنها لم تكن تؤمن بذلك النوع من التعليم . تقول لأخيها وعلى وجهها ذلك القناع الكثيف من الوقار : " التعليم في المدارس كله طرطشة . كفاية القراية والكتابة ومعرفة القرآن وفرايض الصلاة " . ويضحك أخوها ويقول : " باكر يجي ود حلال يعرسك وتنفك مع حججك " . أفراد أسرتها يقولون لها هذا مع إحساس بالخوف ، فهم يدركون أن هذه الفتاة الغاضبة العينين الوقورة المحيا ، تضم صدرها على أمر تخفيه عنهم ، ولما بلغت السادسة عشرة و بدأت أمها تتحدث عن الفتيان الذين يصلحون أصهارا . ولكن نعمة تهز كتفيها ولا تقول شيئا . ولما جاءت آمنة إلى سعدية تحدثها في أمر زواج نعمة من أحمد وقالت لها سعدية : " الشورى عند أبو البت " كانت تعلم في قرارة نفسها أن ( الرأي ) لا لأحد غير نعمة نفسها . وكان لابد من خيارها . فهزت كتفيها وقالت : أنا لي الليلة ما بقيت للعرس ) وكان من العبث مناقشتها ، خاصة وأن سعدية لم تكن متحمسة لأن تصبح حماة لآمنة . لم يمض بعد ذلك وقت طويل حتى ظهر خطيب آخر : إدريس . فتيات كثيرات في البلد كن يتمنين أن يصبحن زوجات له فقد كان متعلما ، يعمل مدرسا في مدرسة ابتدائية . وكان دمث الأخلاق ، حسن السيرة بين أهل البلد ومع أن عائلته لم تكن من العوائل ذوات الأصل ، التي يشار إليها في البلد ، إلا أن أباه كون لنفسه مكانة بين الناس بجده وحسن عشرته كانت أسرة طيبة ميسورة الحال ، وكان حاج إبراهيم والد نعمة ، وأمها سعدية ، وأخوانها الثلاثة ، يميلون إلى قبول إدريس . بيد أن نعمة كان لها رأي غير ذلك . هزت كتفيها وقالت : " ما بدوره ) . واحتد حاج إبراهيم في كلامه معها وهم بصفعها . ولكنه توقف فجأة . شيء ما في محيا تلك الفتاة العنيدة قتل الغضب في صدره . لعله تعبير عينيها ، لعله التصميم الرزين على وجهها . وكأنما أحس الرجل بأن هذه الفتاة ليست عاقة ولا متمردة . ولكنها مدفوعة بإيعاز داخلي إلى الإقدام على أمر لا يستطيع أحد ردها عنه . ومن يومها لم يكلمها أحد في أمر الزواج . وكانت نعمة حين تفرغ نفسها وأفكارها ، وتخطر على ذهنها خواطر الزواج . تحس أن الزواج سيجيئها من حيث لا تحتسب . كما يقع قضاء الله على عباده . مثل ما يولد الناس ويموتون ويمرضون ، مثل ما يبيض النيل ، وتهب العواصف ، ويثمر النخل كل عام ، كما ينبت القمح ويهطل المطر وتتبدل الفصول كذلك سيكون زواجها ، قسمة قسمها الله لها في لوح محفوظ قبل أن تولد ، وقبل أن يجري النيل ، وقبل أن يخلق الله الأرض وما عليها ، لم تكن تحس بفرح أو خوف أو أسى حين تفكر في هذا ، ولكنها كانت تشعر بمسؤولية كبيرة ستوضع على كتفيها في وقت ما ، قد يكون قريبا ، وقد يكون بعيدا ، صاحباتها في الحي ، كل فتاة تشب وفي ذهنها صورة معينة عن الفارس الذي يربط فرسه ذات مساء ساجي الضوء خارج الدار ، ويدخل ويختطفها من بين أهلها ، ويهرب بها بعيدا إلى عوالم سحرية من السعادة ورغد العيش ، أما نعمة فلم ترتسم في ذهنها صورة محددة ، كبرت وكبر معها حب فياض ستسبغه يوما ما على رجل ما قد يكون الرجل متزوجا له أبناء ، يتزوجها على زوجته الأولى قد يكون شابا وسيما متعلما ، أو مزارعا من عامة أهل البلد مشقق الكفين والرجلين ، من كثرة ما خاض وضرب المعول ، قد يكون الزين ... وحين يخطر الزين على بال نعمة تحس إحساسا دافئا في قلبها ، من فصيلة الشعور الذي تحسه الأم نحو أبنائها ، ويمتزج بهذا الإحساس شعور آخر ، بالشفقة ، يخطر الزين على بالها كطفل يتيم عديم الأهل ، في حاجة إلى الرعاية ، أنه ابن عمها على كل حال ، وما في شفقتها عليه شيء غريب . ،، لم تكن أم الزين تبالي أين يقضي الزين ليله ، فقد كان كروح قلق ليس له مستقر ، حيثما أقيم عرس تجد الزين : في فريق الطلحة أو عند عرب القوز في قبلي أو بحري ، لا يحبسه برد ، ولا عاصفة تهب بالليل ولا النيل الطامي في موسم فيضانه ، تلتقط أذنه بحساسية نادرة زغاريد النساء على بعد أميال ، فيضع ثوبه على كتفه ويهرول كأن شيئا يجذبه إلى مصدر الصوت . وأحيانا يسطع النور فجأة من وراء كثبان الرمل ، حين تعدو السيارات آتية من أم درمان ، فإذا شخص نحيل يحب في الرمل يميل بجسمه إلى الأمام قليلا وعيناه تنظران إلى الأرض ، يحث الخطى متجها شرقا . يرى الركاب الزين فيعلمون أن ثمة حفل عرس في طرف الحي ، فإما صاحوا به حين يمرون عليه ، وأما أوقفوا السيارة وتحرشوا به . وأحيانا يسير وراءه كوكبة منهم ، وتقترب زغاريد النساء وتتضح معالمها . ويستطيع الزين أن يميز النساء . أية امرأة زغردت ، ثم تبدو الأنوار وتبدو أشباح مجتمعة تصعد وتهبط كأنها شياطين في وادي الجن . ثم يظهر الغبار الذي تثيره أرجل الناس في رقصها ، يتشبث بخيوط الضوء . وفجأة ينشق الليل عن نداء يعرفه كل أحد : " عوك يا أهل العرس ، يا ناس الرقيص الزين جاكم " . وإذا الزين قد قفز كالقضاء واستقر في حلقه الرقص . ويفور المكان فجأة فقد نفث فيه الزين طاقة جديدة . ومن بعيد يسمع المرء صيحاتهم يرحبون به : " ابشر . ابشر . حبابك عشرة " . وحين تموت أصوات النساء في حلوقهن ، وتطفأ الأنوار ، ويتراوح الناس إلى دورهم قبيل طلوع الفجر ، يسند الزين رأسه إلى حجر أو إلى جذع شجرة ، وينام برهة نوما خفيفا كنوم الطير . وحين يؤذن المؤذن لصلاة الفجر ، يقفل عائدا إلى أهله ، فيوقظ أمه لتصنع الشاي . بيد أن المؤذن قد أذن ذات صباح ، ولم يعد الزين . وأحمر الأفق الشرقي قبيل طلوع الشمس ، ثم ارتفعت الشمس قدر قامة الرجل ولم يعد الزين . وأحست أم الزين برجفة خفيفة في جنبها الأيسر فلم تستبشر خيرا . إنها تعتقد أن جنبها الأيسر إذا رجف فإن شرا سيلم بها أو بأحد ذويها لا محالة . وهمت أن تذهب لعم الزين . ولكنها سمعت حركة عند باب الحوش وسمعت باب الحوش الكبير يصر ، ثم سمعت خبطة قوية ، وفجأة رأت أمامها شيئا مريعا . فصرخت صرخة سمعها حاج إبراهيم أبو لحمة في رابع بيت وهو جالس على مصلاته يشرب قهوة الصباح . امتلأت الدار بالناس رجالا ونساء وحملوا أم الزين فاقدة الوعي . وانشق الناس نصفين . نصفا راح مع الأم ، ونصف أغلبهم من الرجال التفوا حول الزين ، كان على رأسه جرح كبير يصل إلى قريب من عينه اليمنى ، وصدره وثوبه وسرواله ملطخة بالدم . وفقد الناس رشدهم . وأخذ عبد الحفيظ يصيح في الزين وقد احمرت عيناه من الغضب : " كلمنا مين عمل فيك العملة دي ؟ مين الكلب المجرم الضربك ؟ " وتصارخت النساء وبعضهن أخذن في البكاء وكانت نعمة تقف عن بعد ، صامته ، وعيناها مركزتان على وجه الزين ، وقد حل محل الغضب فيهما حنو عظيم . وقال حاج إبراهيم : " الحكيم " . وكان للكلمة وقع الماء على النار ، فهدا عويل النساء وصاح محجوب : " الحكيم " وصاح عبد الحفيظ : " الحكيم " وانطلق أحمد إسماعيل على حماره ليحضره . ولما عاد الزين من المستشفى في مروى حيث ظل أسبوعين كان وجهه نظيفا يلمع . وثيابه بيضاء ناصعة . وضحك فلم ير الناس كما عهدوا سنين صفراوين في فمه ، ولكنهم رأوا صفا من السنان اللامعة في فكه الأعلى ، وصفا من أسنان كأنها من صدف البحر في فكه الأسفل . وكأنما الزين تحول إلى شخص آخر . وخطر لنعمة وهي واقفة بين صفوف المستقبلين أن الزين في الواقع لا يخلو من وسامة . وظل الزين بعد ذلك زمنا طويلا ، ولا حديث له إلا رحلته لمروى . كان يلذ له أن يجتمع حوله رفاقه القدامى ، محجوب ، وعبد الحفيظ ، وأحمد إسماعيل ، وحمد ود الريس والطاهر الرواسي ، وسعيد التاجر ، فيحكي لهم ما جرى له . أول ما وصلت يا زول قلعوني هدومي ولبسوني هدوما نظاف .. السرير يرقش . الملايات بيض زي اللبن والبطاطين والبلاط يزلق الكراع ... " وقاطعة محجوب متحرشا : " خلك من البطاطين والبلاط كرشك الكبيرة دي ملوها ليك بي شنو ؟ " وارتجف فم الزين كأنه مقبل على وليمة : " هلا هلا الأكل في استبالية مروى ولا بلاش . هو عاد جنس أكل . شيتن سمك شيتن بيض شيتن لحم شيتن دجاج " . وقاطعه محجوب مرة أخرى : " الأكل في الاستباليات ما قالوا شوية ؟ كيفن كت بتشبع ؟ " وابتسم الزين ابتسامة كبيرة ميدرة ، حتى يظهر أسنانه الجديدة : " بحال التمرجية كان صاحبتي قعد قدام الأكل " . وصاح عبد الحفيظ : " أي لا إله إلا الله ... آمسنوح . كمان مشيت تتعلبس على التمرجيات ؟ " وارتج جسم الزين بضحك مكتوم : " أي .. أي ... أمانة يا زول مي شافعتن سميحة " . وتدخل ود
صورة العضو الرمزية
حزن السنين
مشاركات: 4294
اشترك في: الأحد 2006.12.3 11:05 am
مكان: ~ معبد الاحزان ~
اتصال:

رد: عرس الزين ... الطيب صالح1

مشاركة بواسطة حزن السنين »

فقال الحنين مواصلا كلامه ( متين سيف الدين ضربك بالفأس في رأسك ؟ فأجاب الزين ضاحكا ووجهه مشبع بالمرح : ( وصت عرس أخته ) . واستمر الحنين وفي صوته هو الآخر رنة مرح : ( شن سويت لي أخته يوم عرسها ؟ ) . أخته كانت دايراني أنا . مشو عرسوها للراجل الباطل داك ) وضحك أحمد إسماعيل بالرغم منه . وقال الحنين في صوت أكثر رقة وحنانا : ( كل البنات دايرتنك يا لمبروك . بارك تعرس أحسن بت في البلد دي ) . وأحس محجوب بخفقة خفية في قلبه . كان فيه رهبة دفينة من أهل الدين ، خاصة النساك منهم أمثال الحنين . كان يهابهم ويبتعد عن طريقهم ولا يتعامل معهم . وكان يحاذر نبوءاتهم ويحس بالرغم من عدم اهتمامه الظاهري ، بأن لها أثرا غامضا . ( نبوءات هؤلاء النساك لا تذهب هدرا ) ، يقول في سره لعل هذا هو الذي جعله يقول بصوت مرتفع فيه رنة واحتقار : ( منو البتعرس البهيم دا ؟ كمان على العلية ، داير يجيب لنا جنيه ) . ونظر الحنين إلى محجوب نظرة صارمة ، ارتعدت لها فرائض محجوب لولا أنه تشجع ، وقال : ( الزين مو بهيم الزين مبروك ، باكر يعرس أحسن بت في البلد ) . وفجأة ضحك الزين ضحكة بريئة ، ضحكة طفل ، وقال ( كت داير أموته ، الحمار الدكر يفلقني بالفاس علشان أخته دايراني أنا ؟ ) فقال الحنين يحزم : ( دحين دايزنك تصالحه . خلاص الفات مات ، هو ضربك ، وأنت ضربته ) . ونادى سيف الدين ، فجأة بقامته الطويلة وحوله سعيد وعبد الحفيظ وحمد ود الريس . فقال الحنين للزين ( قوم سلم فوق رأسه ) . فقام الزين دون أي اعتراض وأمسك برأس سيف الدين وقبله ، ثم أهوى على رأس الحنين وأشبعها قبلا وهو يقول : ( شيخنا الحنين . أبونا المبروك ) وكانت لحظة مؤثرة أثارت الصمت في نفوس أولئك الرجال ، ودمعت عينا سيف الدين وقال للزين : ( أنا غلطان في حقك ، سامحني ) وقام وقبل رأس الزين ثم أمسك بيد الحنين وقبلها ، وجاء الرجال كلهم ، محجوب ، وعبد الحفيظ وحمد ود الريس ، والطاهر الرواسي ، وأحمد إسماعيل ، وسعيد التاجر ، كل واحد منهم أمسك بيد الحنين في صمت وقبلها . وقال الحنين بصوته الرقيق الوديع : ( ربنا يبارك فيكم ربنا يجعل البركة فيكم ) ووقف وأمسك إبريقه في يده . فسارع محجوب يستضيفه : ( لازم تتعشى معانا الليلة ) لكن الحنين رفض بلطف وقال وهو يمسك بيده الأخرى كتف الزين : ( العشا في بيت المبروك ) ، وغابا معاً في الظلام . رف على رأسيهما برهة قبس من ضوء المصباح المعلق في دكان سعيد ، ثم انزلق الضوء عنهما كما ضوء المصباح المعلق في دكان سعيد . ثم انزلق الضوء عنهما كما ينزلق الرداء الحريري الأبيض عن منكب الرجل . ونظر محجوب إلى عبد الحفيظ ونظر سعيد إلى سيف الدين ، ونظروا كلهم بعضهم إلى بعض وهزوا رؤوسهم بعد هذا الحادث بأعوام طويلة ، حين أصبح محجوب جداً لأحفاد كثيرين . كذلك أصبح عبد الحفيظ والطاهر الرواسي والباقون ، وحين أصبح أحمد إسماعيل أبا وصارت بناته للزاوج ، كان أهل البلد - وبينهم هؤلاء - يعودون بذاكرتهم إلى ذلك العام ، وإلى حادث الزين والحنين وسيف الدين الذي وقع أمام دكان سعيد ، الذين اشتركوا في ذلك الحادث يذكرونه برهبة وخشوع ، بما فيهم محجوب الذي لم يكن يأبه لشيء من قبل ، لقد تأثرت حياة كل واحد من أولئك الرجال الثمانية ، يستعيدون فيما بينهم . آلاف المرات تفاصيل الحادث . وفي كل مرة ، كانت الحقائق تتخذ وقعا أكثر سحرا . يذكرون في عجب كيف أن الحنين هل عليهم من حيث لا يعلمون ، في اللحظة ، عين اللحظة ليس قبل ولا بعد ، حين ضاقت قبضة الزين على خناق سيف الدين وكادت تودي به ، بل أن بعضهم يجزم أن سيف الدين قد مات بالفعل : لفظ نفسه الأخير ، ووقع على الأرض جثة هامدة ، وسيف الدين نفسه يؤكد هذا الزعم ، يقول أه مات بالفعل ، وفي اللحظة التي ضاقت فيها قبضة الزين على حلقه ، يقول أنه غاب عن الدنيا البتة ، ورأى تمساحا ضخما في حجم الثور الكبير فاتحا فمه . وانطبق فكا التمساح عليه ، وجاءت موجة كبيرة كأنها الجبل فحملت التمساح في هوة سحيقة ليس لها قرار ، في هذا الوقت ، يقول سيف الدين أنه رأى الموت وجها لوجه ، ويجزم عبد الحفيظ ، وقد كان أقرب الناس إلى سيف الدين حين عاد إلى وعيه ، أن أول كلمات فاه بها ، حين جاش النفس في رئتيه من جديد ، أول شيء تفوه به حين فتح عينيه ، أنه قال : " أشهد إلا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله "

ومهما يكون فمما لا شك فيه أن حياة سيف الدين ، منذ تلك اللحظة ، تغيرت تغيرا لم يكن يحلم به أحد ، كان سيف الدين الابن الوحيد للبدوي الصائغ - سمي الصائغ لأن تلك كانت حرفته في بداية حياته ، ولما أثرى ولم يعد صائغا لصق به الاسم فلم يفارقه ، كان البدوي رجلا موسرا ، ولعله أثرى رجل في البلد ، جمع بعض ثروته بعرق جبينه ، من الصياغة والتجارة والسفر ، وبعضها آل إليه عن طريق زوجته . كان كما يقول أهل البلد . رجلا ( أخضر الذراع ) لا يمس شيئا إلا تحول بين يديه إلى مال ، في أقل من عشرين عاما ، كون من العدم . ثروة بعضها أرض وضياع ، وبعضها تجارة منتشرة على طول النيل من كرمه إلى كرمه ، وبعضها مراكب موسقة بالتمر والبضائع تجوب النهر طولا وعرضا ، وبعضها ذهب كثير تلبسه زوجته وبناته في شكل حلي يملأ رقابهن وإيديهن . ونشأ سيف الدين ولداً واحداً بين خمس بنات ، تدلله أمه ، ويد لله أبوه ، وتدلله أخواته الخمس . فكان لا بد أن يفسد ، أو كما يقول أهل البلد ، كان لا بد أن ينشأ هشا رخوا ، كالشجيرة التي تنو في ظل شجرة أكبر منها . لا تتعرض للريح لا ترى ضوء الشمس ، مات البدوي وفي حلقه غصة مريرة من ابنه . أنفق عليه مالاً كثيراً لكي يتعلم . فلم يفلح وأنشأ له متجراً في البلد فأفلس في شهر ، ثم الحقه بورشة ليتعلم الصناعة فهرب . وبعد لأي ، ووساطة وتشفع نجح في تعيينه موظفا صغيرا في الحكومة لعله يتعلم كيف يعتمد على نفسه . لكن لم تمضي أشهر حتى جاءته الأنباء تترى . من أفواه الأعداء والأصدقاء . من الشامتين والمشفقين على السواء أن ابنه يبيت ليله كله في خماره ولا يرى المكتب إلا مرة أو مرتين في الأسبوع . وأن رؤساءه أنذروه مراراً وهددوا بفصله من العمل ، فسافر الرجل إلى المدينة وعاد يسوق ابنه كالسجين وحلف ليسجننه طول حياته في الحقل - كالعبد الرقيق . هكذا قال .
صورة العضو الرمزية
حزن السنين
مشاركات: 4294
اشترك في: الأحد 2006.12.3 11:05 am
مكان: ~ معبد الاحزان ~
اتصال:

رد: عرس الزين ... الطيب صالح1

مشاركة بواسطة حزن السنين »

جاؤوا عبر النيل بالمراكب ، وجاؤوا من أطراف البلد ، بالخيول والحمير والسيارات ، فأنزلوهم زمرا زمرا . في كل بيت طائفة ، يقوم على خدمتهم أفراد العصابة ، فهذا يومهم : يعدون لكل شيء عدته لا تفوتهم صغيرة ولا كبيرة لن يمسوا طعاما . ولن يذوقوا شرابا ، حتى يأكل ويشرب الناس . زغرودة منفردة ثم مجموعة زغاريد ، ثم طبل وحيد يهمهم ، ثم طبول كثيرة لأصواته أصداء . لوح الرجال بأيديهم وهزوا بالعصي والسيوف . وأطلق العمدة من بندقيته خمس طلقات . وقالت آمنة لسعدية : " الأمة دي إن شاء الله تقدروا تكفوها " . ولم تقل سعدية شيئا . نحرت الإبل ، وذبحت الثيران . ووكئت قطعان من الضأن على جنوبها . كل أحد جاء أكل حتى شبع وشرب حتى أرتوى . وكان الزين يبدو مثل الديك ، لا بل أجمل ، مثل الطاووس ، ألبسوه قفطانا من الحرير الأبيض ومنطقوه بحزام أخضر ، وعلى ذلك كله عباءة من المخمل الأزرق ، فضفاضة يملأها الهواء فكأنها شراع , وعلى رأسه عمامة كبيرة تميل قليلا إلى الإمام ، وفي يده سوط طويل من جلد التمساح . وفي اصبعه خاتم من الذهب ، يتوهج في ضوء الشمس نهارا ويلمع تحت وهج المصابيح بالليل ، له فص من الياقوت ، في هيئة رأس الثعبان ، كان منتشيا دون شرب من الضجة الكبيرة التي تضج حوله . يبتسم ويضحك يدخل ويخرج بين الناس يهز بالسوط ، ويقفز في الهواء يربت على كتف هذا ، ويجر هذا من يده ، ويحث هذا على الأكل ، ويحلف على هذا بالطلاق أن يشرب ، وقال له محجوب :" دحين أصبحت بني آدم ، حلفتك بالطلاق يا دوب أصبح ليها مغنى " . جاء تجار البلد وموظفوها ووجهاؤها وأعيانها . وحضر أيضا الحلب المرابطون في الغابة . جيء بأحسن المغنيات وأحسن الراقصات ، ضاربات الدف وعازفي الطنابير وأخذت فطومة ، وكانت أشهر مغنية غربي النيل تشدو بصوتها المثير :

الزين الظريف خلا البلد أفراح
انطق يا لسان جيب المديح أقداح


وجرجروا الزين وأدخلوه عنوة حلبة الرقص . فهز بسوطه فوق المغنية ووضع على جبهتها ورقة جنيه ، وتفجرت الزغاريد مثل الينابيع . اجتمعت النقائض تلك الأيام . جواري الواحة غنيين ورقصن تحت سمع الإمام وبصره . كان المشايخ يرتلون القرآن في بيت ، والجواري يرقصن ويغنين في بيت المداحون يقرعون الطار في بيت ، والشبان يسكرون في بيت ، كان فرحا كأنه مجموعة أفراح . وكانت أم الزين ترقص مع الراقصين ، وتنشد مع المنشدين ، تقف هنيهة تستمع للقرآن ، ثم تهرول خارجة إلى حيث يطهى الطعام تحث النساء على العمل ، وتجري من مكان إلى مكان وهي تنادي : " أبشروا بالخير ، أبشروا بالخير " . وقالت حليمة ، بائعة اللبن ، تغيظ آمنة : " أريته يا يم عرس السرور " . نقرت " الدلاليك " نقرات نشيطة متحفزة دقات الدليب وغنت فطومة

سارق نومي شاغل فكري
التمر البيمرق بدري


وقف الرجال في دائرة كبيرة تحيط بفتاة ترقص في الوسط ، ثوبها انحدر عن رأسها ، وصدرها بارز للأمام ، ونهداها نافران . ترقص كما تمشي الأوزة . ذراعاها إلى جانبيها تحركهما في تناسق مع رأسها وصدرها ورجليها ، ويصفق الرجال ويضربون الأرض بأرجلهم ، ويحمحمون بحلوقهم ، وتضيق الدائرة على الفتاة ، فترمي شعرها الممشط المعطر على وجه أحدهم ، ثم تتسع الدائرة . وتتماوج الزغاريد ، ويشتد التصفيق ، ويقوى وقع الأرجل على الأرض ، ويخرج الغناء سلسا ملحنا من حلق فطومة :

طول اليل عليه بشابي
الزول السكونة فشابي


وانتشى إبراهيم ود طه من الغناء فصاح : " آه . قولي كمان الله يرضى عليك " . رقصت عشمانة الطرشاء . وصفق موسى الأعرح ، ولم تلبث دقات الدلاليك أن أبطأت وأصبح لها أزير مكتوم ، هذه نقرات الجابودي . وقويت حمحمة الرجال في حلوقهم ، ودخلت سلامة حلبة الرقص ، صالت وجالت ، وهي تزهو تختال مثل المهرة . كانت خير من يرقص الجابودي . وكان لها معجبون كثيرون ، ترقبها عيونهم فتنفلت منه كالسمكة في الماء . كثفت حلقة الرقص ، واشتد التصفيف . وهدرت أصوات الرجال ، ودخل الزين الحلبة ، دخل من تلقاء نفسه هذه المرة . طويلا فوق سلامة ، فلطمته بشعرها الطويل المنهدل فوق كتفيها ، وغمزته بعينها . وكان الإمام جالسا مع جماعة ، في ديوان حاج إبراهيم الذي يشرف على فناء الدار ، فحانت منه التفاته ، ووقعت عينه على سلامة وهي منهمكة في رقصها ، ورأى صدرها البارز ، ورأى كفلها الكبير ، حين تضرب برجلها يهتز ويترجرج منقسما إلى شقين كأنهما نصفا بطيخة ، بينهما واد هبط فيه الثوب ، وكانت سلامة في رقصها قد انثنت حتى أصبح جسمها في شكل دائرة . فمس شعرها الأرض ، وزاد بروز صدرها ، ونتوء كفلها ، ورأى الإمام ساقها اليمنى وجزءا من فخذها الممتلئ .وقد رفع عنه الثوب . وحين عاد الإمام بوجهه إلى محدثه . كانت عيناه مريدين مثل الماء العكر . اييييييويا " . هذه حليمة بائعة اللبن ، تزغرد طعما في خير تناله من أهل العرس ، وتحولت دقات الدلاليك إلى العرضة . دقتان سريعتان وأخرى منفردة . وأخذ الرجال يرمحون بأقدامهم كما تخب الخيل . وتقاطر عرب القوز على حلبة الرقص ، فتواثبوا وتصايحوا وطرقعوا بأسواطهم . رجال قصار القامات مشدود العضلات ، أجسامهم ريانة ندية في مثل لون الأرض لأنهم يعيشون على لبن الإبل ولحم الغزلان يلبس الواحد منهم ثوبا يريطه في وسطه ويلقي طرفيه على كتفيه . إذا قفز في الهواء لمع جسمه في ضوء الشمس ، يلبسون في أرجلهم أخفافا وفي ذراع كل منهم سكين في غمده . وتختلط أصوات الراقصين وضربات الدلاليك بدقات الطار ونشيد المداحين في البيت المجاور . هناك ممسك بالطار أحدهما الكورتاوي وعميد المداحين . كان يقول :

بي سهل الفريش شاف
نعم العبا وروح


العلم لوح زار جد الحسين "

وتدمع أعين الناس ، وبعضهم يجهش بالبكاء ، خاصة الذين حجوا وزاروا مكة والمدينة والأماكن التي يصفها المادح .

ويمضي الرجل يهرج ، في صوت له بحة اشتهر بها :

" نعم العبا وحاد :


بي سهل القريش شاف العلم نادى


زار جد الحسين


فرشو له الزبيب والتين والحبحب


كاسات من حميا قالوا له هاك اشرب
صورة العضو الرمزية
حزن السنين
مشاركات: 4294
اشترك في: الأحد 2006.12.3 11:05 am
مكان: ~ معبد الاحزان ~
اتصال:

رد: عرس الزين ... الطيب صالح1

مشاركة بواسطة حزن السنين »

وتختلط زغاريد النساء في حلقة المديح بزغاريد النساء في حلبة الرقص ، وأحيانا يهاجر فريق من حلبة الرقص إلى حلقة المديح . هناك تتحرك أرجلهم ويثور حماسهم ، وهنا تدمع أعينهم ، كذلك يتحول فريق من حلقة المديح إلى حلبة الرقص ، يهاجرون من الشوق إلى الصخب .

وفجأة تنبه محجوب .

أين الزين ؟

كان مشغولا كبقية عصابته بتنظيم الفرح . فاختفى الزين عن عينه .

سأل عنه كلا من الباقين ، فقالوا أن أحدا منهم لم يره منذ قرابة ساعتين . وقال عبد الحفيظ أنه يذكر أنه رآه آخر مرة يستمع للمداحين .

بدأوا يبحثون عنه . دون أن يحس أحد ، مخافة أن يقلق الباقون . لم يجدوه مع الحشد المجتمع مع الإمام في الديوان الكبير ، ولم يكن في حلقة المديح ، ولم يكن مع أي من جماعات الرقص المتناثرة في البيوت . دخلوا المطابخ حيث النسوة يزحفن أمام الأفران والقدور ، فلم يكن الزين هناك .

حينئذ أصابهم الذعر ، فإن الزين قد يفعل أي شيء ، قد ينسى أمر زواجه . ويختفي كعادته .

وتفرقوا يبحثون عنه . فلم يتركوا موضعا . بعضهم ضرب في الصحراء قبالة الحي , وبعضهم ذهب ناحية الحقول ، حتى ضفة النيل دخلوا البيوت بيتا بيتا تفرسوا تحت جذع كل نخلة وكل شجرة .

لم يبق إلا المسجد . لكن الزين لم يدخل المسجد في حياته ، كان الوقت أوائل الليل ، كثيف مظلم . وكان المسجد ساكنا خاويا ، قد تسرب الضوء من مصابيح العرس خلال نوافذه . في خطوط مستطيلة من النور ، انعكس بعضها على السجاجيد ، وبعضها على السقف ، وبعضها على المحراب وقفوا ينصتون فلم يسمعوا حسا ، إلا . أصوات العرس تتناهى بهم ونادوا باسمه وبحثوا في أركان المسجد وفي ردهاته فلم يجدوا الزين . وفقدوا الأمل . لا بد أنه هرب . لكن إلى أين والبلد كلها مجتمعة عندهم . وبغتة خطر خاطر في ذهن محجوب ، فصاح : " المقبرة " . لم يصدقوا ، ماذا يفعل في المقبرة في ذلك الوقت من الليل ؟ لكن محجوب سار أمامهم فتبعوه ساروا صامتين وراء محجوب بين القبور ، تتناهى بهم أصوات الغناء والزغاريد عالية واضحة ، ثم خافتة بعيدة . كان المكان بلقعا ، إلا من شجيرات السلم والسيال التي تناثرت بين المقابر ، وامتلأت الثغرات بين فروعها بالظلام فبدت كأنها سفن في لجة ، وفي الوسط بدا الضريح الكبير غامضا مخيفا , وفجأة وقف محجوب وقال لهم : " اسمعوا " لم يسمعوا شيئا أول الأمر ، فأرهفوا آذانهم ، فإذا بنشيج خافت يتناهى بهم . سار محجوب ، وساروا وراءه . حتى وقف فوق شبح جاثم عند قبر الحنين ، وقال محجوب : " الزين . الجابك هنا شنو؟ " لم يرد ولكن بكاءه اشتد حتى أصبح شهيقا حادا . وقفوا وقتا يراقبونه في حيرة ثم قال الزين في صوت متقطع ، يتخلله النحيب : " أبونا الحنين إن كان ما مات كان حضر العرس " . ووضع محجوب يده على كتف الزين برفق وقال له : " الله يرحمه . كان راجل مبروك ، لكن الليلة ليلة عرسك . الراجل ما بيبكي ليلة عرسه يا ألله أرح " . وقام الزين وسار معهم . وصلوا الدار الكبيرة ، حيث أغلب الناس ، فاستقبلتهم الضجة ، وغشيت عيونهم أول وهلة من النور الساطع المنبعث من عشرات المصابيح ، كانت فطومة تغني ، والدلاليك تزمجر ، وفي الوسط فتاة ترقص ، وحولها دائرة عظيمة فيها عشرات الرجال يصفقون ويضربون بأرجلهم ويحمحمون بحلوقهم . انفلت الزين ، وقفز قفزة عالية في الهواء فاستقر في وسط الدائرة . ولمع ضوء المصابيح على وجهه . فكان ما يزال مبللا بالدموع . صاح بأعلى صوته ويده مشهور فوق رأس الراقصة : " أبشروا بالخير ..أبشروا بالخير" وفار المكان ، فكأنه قدر تغلي . لقد نفث فيه الزين طاقة جديدة . وكانت الدائرة تتسع وتضيق تتسع وتضيق ، والأصوات تغطس وتطفوا والطبول ترعد وتزمجر ، والزين واقف في مكانه في قلب الدائرة ، بقامته الطويلة وجسمه النحيل ، فكأنه صاري المركب
صورة العضو الرمزية
ودالدرديري
مشاركات: 1253
اشترك في: الأربعاء 2007.1.31 6:11 pm
مكان: بلداً هيلي نا

رد: عرس الزين ... الطيب صالح1

مشاركة بواسطة ودالدرديري »

لم تبق كلمة تقدير وشكر في العالم الا وددتها لك
ايها السامق كنخلة على ضفة النيل
زدنا من هذا الرحيق الذي لايروينا الا هو
اخي فرح السنين لك الود كله
صورة العضو الرمزية
حزن السنين
مشاركات: 4294
اشترك في: الأحد 2006.12.3 11:05 am
مكان: ~ معبد الاحزان ~
اتصال:

رد: عرس الزين ... الطيب صالح1

مشاركة بواسطة حزن السنين »

اخي الرائع ودالدرديري دوماً
لك مني كل الحب و التقدير و الاحترام علي مرورك الكريم ....!!!
صورة العضو الرمزية
sarona
مشاركات: 1776
اشترك في: الخميس 2007.2.15 1:14 pm
مكان: المملكة العربية السعودية

رد: عرس الزين ... الطيب صالح1

مشاركة بواسطة sarona »

حزن السنين....

الطيب صالح كاتب ينسيك انك بتقراء كتاب .....

ويجعلك تعيش مع ابطال الرواية الاحداث كاملة ....

الرواية عبقرية ....من عبقري...

مشكور على الجهد العظيم ....

ودمت


.
.
أضف رد جديد

العودة إلى ”سيناريو وأحـداث“