- قوم يا ود الكلب ... نايم ؟ تنوم فيك حيطة ..قوم قامت قيامتك
هبّ عبد الله من نومه مذعورا يجري في الحوش الفسيح وسياط والده تلاحقه وتلهب ظهره والسب واللعن يدوي في أذنه
- قايلني ما شفتك ؟ جيت تتسحب آخر الليل زي الحرامي والله الليلة أصلو ما أخليك
- يا أبوي أنا كلمتك قلت ليك ماشين نجيب الحاج خالي من المطار
أتت زينب وهي تجري وتصيح
- يا جبارة فك الولد .. أصبحنا بـ الله ... الولد كان في المطار وكلمك
- ما كلمني .. أنا قلت ليهو تاني ما تطلع من البيت إلا بإذني
- يابوي والله كلمتك بس أنت كنت ...
توقف جبارة عن الجري خلف ولده وتطاير الشرر من عينيه
- كنت شنو يا ولد ؟ كنت شنو ؟
تدخلت زينب وهي تخفي إبنها خلف ظهرها
- يا جبارة الدنيا صباح والناس لسه ما صحت من نومها والشمس ما طلعت .. ما تفرج فينا خلق الله ياخ
- أنت ما سامعة ولدك الحيوان ده بقول في شنو
- الولد كلمك
- كلمني متين ؟ ... ما كلمني ولا حاجة
- يا جبارة الولد كلمك والله بس أنت كنت ما واعي بسبب الزفت البتشربو ده
أقترب جبارة وفاحت منه رائحة الخمر وضحك ضحكة مخيفة
- والله عال .. عال العال يا زينب بت السرة .. كمان بقيتي تقوليها لي في وشي ؟
- أسوي ليك شنو عاد ؟ الولد قال ليك ماشي المطار عشان يجيب الحاج أخوي... وأنت عارف الحاج ما عندو غير البنات .. وأنت قلت ليهو أمش .. تجي من الصباح تقع فوقو ضرب كدي ؟
أشرقت الشمس وجلس الحاج على كرسيه الوثير في الجنينة الفسيحة التي أمام داره ..
تمطى في سعادة وأفرد جسده النحيل بعد ليلة حافلة بالإرتواء . ونفض بعض أوراق الشجر اليابسة التي سقطت على جلبابه الأبيض الفخيم .
ثم وضع قدما على أخرى وهو ينظر إلى الشجيرات التي تحيط بحديقته .
نظر إلى أشجار النيم والليمون ودقن الباشا بعين الرضا .. ولكن لم تعجبه تلك الرقع الصفراء التي بدت تظهر على النجيلة الممتدة تحته
أخذ يعبث بلحيته المختلط سوادها ببياضها وهو يشعر بالراحة والسكون بعد رحلة غياب في إحدى سفراته التجارية
- الشاي يا الحاج
وضعت فوزية صينة الشاي أمامه على التربيزة الصغيرة
وجلست قبالته بعيونها الناعسة التي بان عليها أثر السهر والسعادة
كانت إمرأة في نهاية العقد الرابع من عمرها .. مكتنزة الجسم تبدو عليها آثار النعمة والراحة
- البنات لسة نايمات ؟
- لسة يا الحاج .. ميادة بس الصاحية لكن الباقيات جنهن سهر .. والقومة البدري بتغلبن
رشف رشفات متتالية وقطم قطعة من البسكويت المجاور لبراد الشاي
ثم أطلق تنهيدة عميقة
- قبيل الفجر كنت سامعة الجوطة دي ؟
- وين ؟
- الـ في بيت زينب أختي
- سمعتها أيوه ... بس تعرف والله من كترت ما جبارة ده بكورك كل يوم .. بقت لينا حاجة عادية
- الراجل ده عزبهم عزاب شديد
- والله زينب ما تستاهل ... بس نسو شنو
- تعرفي ولدو عبد الله حيتعقد بالطريقة دي .. كل يوم فاضحو وفاضحنا معاه
- عبد الله ؟ عبد الله والله ولد السرور .. أصلو ما بشبه أبوه
- أبوه لو خلى الشراب ده ما عندو عوجة .. بس يخليه كيف .. ليهو 30 سنة بشرب
- يا الحاج خلاص فكنا من السيرة دي من الصباح كده
- دي أختي يا فوزية ووجعها وجعي
- عارفة والله بس خلينا نفرح برجعتك شوية .. الهم راقد وما طاير مننا
- أحمدي الله يا مرا
- حامداه وشاكراه
- بعد شوية رسلي نادي عبد الله .. أنا عايزو
- عايزو في شنو
- عايز أرسلو يجيب خروف .. أنت نسيتي ؟ موش كل ما أرجع من سفرية بضبح خروف كرامة وسلامة ؟
- آآآه أنا .. ما نسيت أنسى كيف ... أنسى كيف الكمونية والمرارة ووجع القلب ..؟ بناتك المدلعات ديل ما بساعدوني بس كل واحدة قاعدة وماسكة .. وماسكة الـ.. الـ .. السجم ده أسمو شنو طار لي من راسي
- اللابتوب
- آي ياهو الابتون ده ... تفك الابتون وتمسك الموبايل تفك الموبايل تمسك الابتون .. ياهي دي عيشتن .. عيشة تطير في السما
- كدي روقي يا فوزية وما تعملي لينا موضوع من مافي .. بس بعد شوية نادي لي عبد الله
- سمح يا الحاج
- أنتي الراديو وينو ؟
- دقيقة الـ نجيبو ليك
غابت فوزية وعادة تحمل راديو من طراز قديم بني اللون .. يعمل بالبطارية وهو معشوق الحاج يحمله معه في كل مكان في البيت
فتح الراديو وبحث عن أذاعة أمدرمان ... فوجدها ووجد سيد خليفة يغني إزيكم كيفنكم أنا لي زمان ما شفتكم
فإبتهج الحاج ورفع الصوت وأخذ يميل مترنما وتصفق معه فوزية بطرب شديد ونسيا نفسيهما
صباح جميل ونسيم عليل وظل ظليل ..وصوت طروب وحبيب ومحبوب .. وارتواء بعد شقاء ..
لم ينتبها إلى ميادة التي وصلت إلى مسامعها أصداء البهجة
فخرجت من غرفتها وتوجهت إلى الجنينة بقامتها الطويلة وجسدها النحيل تلف الطرحة حول رأسها وتمسك مصحفا بيدها ..
وقفت أمامهما وعلامات الضيق تنضح من وجهها .. فأنتبها لوجودها فأمسك الحاج بالمذياع وأخذ يرخي صوته شيئا فشيئا ثم أغلقه ووضعه في حجره
ظلت فوزية تنظر إلى ميادة ثم إلى الحاج الذي أطرق وكأنه صبي صغير سرق قطعة حلوى
إستدارت ميادة عائدة إلى الداخل وهي تتمتم
- أستغفر الله .... أستغفر الله العظيم .
رفع الحاج بصره من على الأرض ونظر إلى فوزية نظرة خبيثة , ثم أنفجرا ضاحكين .
دخلت فوزية إلى داخل البيت ثم إلى الصالة الوسيعة التي تراصت على جنباتها الكراسي الفخمة وتدلت من حوائطها أرقى أنواع الستائر والتي حجبت ضوء الشمس فبان المكان خافتا تهب منه نسمات المكيف الباردة ..
مشت على ذاك الموكيت الأحمر السميك الذي كتم أصوات خطواتها ثم ولجت إلى غرفة مي ومنى ..
كانت لميادة – كبيرة أخواتها ذات الاثنان والعشرون عاما - غرفة مستقلة لأن طبعها الحاد لا يتناسب مع طبيعة شقيقاتها الإثنين .. خصوصا طبع منى ذات الخمسة عشر ربيعا
كانت لا تتحمل سخرية منى من طريقة لبسها المحجب وإلتزامها وفي طريقة كلامها
وعندما كثرت المناكفات بين الأختين تم فصل ميادة ومنحها غرفة مستقلة تقوم فيها بطقوسها اليومية بعيدا عن سخرية منى
أضاءت فوزية نور الغرفة فوجدت الفتاتين غارقات في سبات عميق – مندسة - كل واحدة تحت بطانية ناعمة
ذهبت إلى سرير منى وجلست بجانبها وهزتها من كتفها
- منى ... قومي يا منى
تململت الفتاة وأدارت لها ظهرها
- قومي يا منى الساعة 8 جات
أجابتها بصوت ناعس يفيض دلالا
- يا بت ما تقومي أنا ما فاضية ليك هداك أبوك مستنيك تمشي
- قولي ليه لسه نايمة
أنتهرتها فوزية بعد أن نفذ صبرها وقامت منها وهي تقول
- أنا زاتي غلطانة البحنس فيك أخلي أبوك يجي يتصرف معاك براهو .. وهو غير الدلع حقو ده البوظكن شنو
غاصت في سريرها و- تكرفست – أكثر وهي تقول
- يا جماعة أنا تعبانة .. أفهموني
- تعبانة تعبانة خلي أبوك يشوف ليه زول تاني يرسلو ينادي عبد الله
قفزت منى من سريرها دفعة واحدة وطارت البطانية وطار معها النوم والتعب وقالت وهي متحفزة وفي عينيها إبتسامة
- قلتي شنو ؟ يرسلو وين ؟ ينادي عبد الله ؟
***********
- عبد الله يا ولدي مالك ما شربت الشاي ... ليهو ساعتين جمبك ؟
- يمه بعد الضرب والشتايم دي منو العندو نفس لحاجة ؟
نظرت زينب إلى ولدها – الراقد في غرفته المتواضعة - بشفقة شديدة وكثير من الحنان .. فقد أرهقته الدنيا ولم تعطف عليه يوما
أصابه إدمان والده للخمر بعقدة نفسية وأرغمته فضائح والده على الإنطواء والإنزواء
فكم من مرة عثر علي والده واقعا في الشارع بثيابه الرثة ورائحته الكريهة
وكم من مرة يناوش الجيران ويسبهم بأقذع الألفاظ وهو في ذهاب عقله المريع
لم يراعي لسمعته ولا لسمعة إبنه في مستقبل أيامه
كان أبا غليظ القلب أناني لا يحب إلا نفسه ولا يعرف معنى التضحية من أجل إبنه الوحيد
كان يشرب الخمر من قبل الزواج ولكنه خدع الجميع بإظهار الصلاح والتقوى .. حتى تم الزواج وسرعان ما إنكشفت أسراره وتهتكت أستاره وبان قراره
لم تشأ أن تنجب منه بعد عبد الله ... فقد كانت تشعر بأن مستقبلها معه سيكون مظلما ولم يخيب ظنها
فقد كان عند الظن وأسوأ
أحال حياتها لقطعة جحيم ... مليئة بالفضائح على جميع المستويات ..
- قوم يا ولدي أقعد بره شوية ..... أنت قاعد كيف في السخانة دي ؟
- أخير السخانة من الضرب والذلة
- الكهربا كملت .. وأبوك ما خلى لينا تعريفة نشتري بيها بسبب السم البنتح فوقو ده ليل على نهار
- وأنا بقيت عاطل زي أبوي .. أتخرجت من الجامعة وما لاقي شغلانة .. يا ريت القروش الصرفتها في الجامعة دي كان صرفتها في تجارة
- ما تقول كده يا ولدي .. التعليم برضو سمح
- وينا سماحتو دي يا يمه ؟ سمح في مكان تاني غير البلد دي
- الفقر ما عيب يا ولدي
صمتا قليلا وحاولت زينب أن تجد ما تسلي به إبنها وتخرجه من إحباطه
- أنت بس شد حيلك في أي شغلانة تلقاها وربنا بوفقك ..تعرف .. الحاج أخوي ده زمان بدأ بي شنو ؟
- بي شنو ؟
- والله الحاج ده مما كنا صغار جنو بيع وشرا .. تعرف كان بربي الحمام ويمشي الطاحونة يشتري ليهو العيش ونحن كنا شايفنو بضيع قروشو في الفاضي ... المهم بعد فترة كده الحلة كلها بقت تشتري منو حمام .. بعد كم سنة خلى الحمام وإشتغل في الزراعة .. بيستأجر قطعة أرض ويزرعا ويحصد ويبيع .. وربنا فتحا عليه .. لحدي ما مسك في تجارة أسبيرات العربات .. وبعد كده حالو إتغير من حال لأحسن حال ...
- ونحن ضعنا بسبب أبوي وبلاويه الزرقة
- قسمتنا كده يا ولدي
- لا ما قسمتنا ولا شي ... نحن دايما بنعلق خيبتنا وفشلنا في حكاية القسمة والنصيب دي .. نحن خايبين وبس
- خلاص يا ولدي خليك من السيرة دي وأطلع شم ليك هوا بره
- أبوي كل ما يشوفني يده بتاكلو .. وبيحلا ليهو الضرب
- هسه هو نايم أمرق أقعد في الضل شوية
وصلت إلى مسمعيهما صوت طرقات على باب الشارع فقامت زينب تسعى نحو الباب بخطوات متعبة
- ده منو ده .. جايين جايين ... منو ؟
فتحت الباب لتجد وجه منى يشرق من خلفه بإبتسامتها الجميلة وجسدها المثير الذي يفوق عمرها نضوجا ... فقالت وهي تضحك
- أنا الدودو
- دي أنت يا بت .... خشي لـ جوا
- وييييين والله مستعجلة ... جيتكم مرسلة
- أها شنو؟
- مرسلني أبوي لعبد الله
- سمح أدخلي لحدي ما أناديهو ليك
دخلت إلى داخل البيت ونظرات عينيها تبحثان عن عبد الله بشوق وتتلفت بقلق خوفا من أن يباغتها جبارة السكران .